الأحياء الأموات
" الأحياء الأموات "
بقلم : زينب مدكور
في الكون مخلوقات حية ومخلوقات جامدة أو ميتة ، ومن كرم الله تعالى أنه سبحانه سَخّر المخلوقات كلها في خدمة الإنسان .. حتى ما كان ظاهره معادياً أو مفترساً للبشر .. هذا إن أحسن الإنسان ارتضائه وتطويعه .. والمخلوقات كلها (الحية والجامدة) تسبح الله وتعظمه ، عدا من شذّ من البشر، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ۗ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (الحج: 18).
أعظم علامة من علامات حياة المخلوقات هي أن تكون في السياق الذي رسمه الخالق سبحانه لها .. وأن تدور في وحى الغاية التي خلقت من أجلها ، فإذا خرجت عن تلك الغاية تعبت واُنهكت ثم هلكت وتلاشت وماتت .. حتى وإن ظهرت عليها بعض آثار وأعراض الحياة .. فالحيوان إذا صار إنساناً فقد حيوانيته .. والإنسان إذا صار حيواناً أو جماداً فقد بشريته .. ولا نستغرب إن سمعنا من يشير بيده إلى إنسان متوحش ويقول بأن هذا لم يعد إنساناً؛ بل حيوان، لأن الإنسانية قد ماتت في واقع حياته
وحتي نعلم الفرق بين الأحياء منا والأموات لابد من تحديد من هو الميت ومن الحي ومن ذلك :
الأحياء شاكرون ذاكرون والأموات منكرون جاحدون ،
الأحياء نافعون كالأشجار مثمرون والأموات كالهشيم والأشواك مفسدون ، الأحياء لا يقبلون الذل ولا يطأطأون والأموات شربوا كأس الذل وأناخوا ظهورهم بثمن بخس لمن يمتطون ، الأحياء منفتحون فهم يتواصلون ولا يقطعون والأموات قاطعون منغلقون ، الأحياء يأملون ويعملون والأموات يائسون محبطون ، الأحياء عالمون عاملون والأموات جاهلون أو أنهم عالمون (ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) ، الأحياء كرماء النفس طيبون والأموات خبثاء النفس سيئون ؛
وهذه بعض العلامات الفارقة بين الأحياء والأموات، وفِي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يثبت أن الحياة حياة الروح بالعلم والإيمان، لا حياة الجسد بالأكل والشرب والعيش كالحيوان ، ومن ذلك :
١. الاستجابة لله تعالى هي الحياة، وذلك بالالتفاف حول مائدة القرآن، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال: 24)، وترك الاستجابة موتٌ محقق، وإن توهم الغافل أنه حي لأنه يتحرك، قال تعالى: (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ۖوَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (النحل: 21).
٢. كل من ترك أثراً طيبة وبصمة كريمة ونفعاً ممتداً حيٌّ بذكره الطيب وصدقته الجارية .. قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ) (يس: 12).
٣. لا سواء بين من كان صاحب قلب حي يسمع ويطيع، وبين أموات القلوب، قال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ (فاطر: 22).
٤. غريب حال الإنسان؛ يكفر ويعرض ويفجر، وروحه بيد خالقها، قال تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة: 28).
وحدهم أحياء الروح والقلب يفقهون سرّ الحياة الدنيا العابرة، وأنها خطوة للحياة الآخرة الخالدة، فيركبونها ولا تركبهم، حتى توصلهم إلى بر الأمان، بينما تختلط المعاني والمبادئ عند أموات النفس والقلب فتجدهم: (أحرص الناس على حياة)، ولا يعترفون بالحياة الآخرة، قال تعالى: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) (الجاثية: 24)
وهنا نختم رسالتنا بأنه يحتاج الإنسان بين الحين والآخر إلى قياس وجسِّ نبضه ليتأكد من كونه حيٌّ أو ميت، قبل أن تصعد الروح إلى باريها، فإن كان حياً بسلوكه الطيب وإنتاجه الكريم وبصمته وبسمته الشريفة؛ في هذه الدنيا فإنه سينال شرف (الخلود) في جنات النعيم يوم الدين، وإلا فأموات القلوب بتعطيل ذكر الله فيها، وأموات العقول بإشغالها في غير ما خلقت لها أو تعطيل التدبر عنها، ليس لهم إلا النار تحرق قلوبهم وعقولهم يوم الدين ، و ينبغي على أمتنا أن تنتبه إلى مكائد أعدائنا الذين يحرصون على حقن أرواحنا وعقولنا بحُقنٍ تنزع منا الحياة الحقيقية، وتجعلنا نعيش حياة شكلية هلامية لا جدوى منها ولا أثر، سوى أن يمتطينا هؤلاء الأعداء لتحقيق مآربهم .. فلا حياة لأمة انتهك الأعداء دينها وعرضها وعقلها ودمها ومالها .. إلا إذا ضمدت جرحها، ولملمت شتاتها، وأزاحت غبار الذل عنها ، وتوكلت على الله ربها، وأخذت بالمتاح من أسباب استعادة مجدها .. فلها حينذاك كل الخلود والحياة والتحايا والتكريمات
تعليقات
إرسال تعليق